الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} قوله تعالى}أليس الله بكاف عبده}حذفت الياء من }كاف}لسكونها وسكون التنوين بعدها؛ وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي. وقراءة العامة }عبده}بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي }عباده}وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه}ويخوفونك بالذين من دونه}. ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس؛ كقوله عز من قائل قوله تعالى}ويخوفونك بالذين من دونه}وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان، فقالوا: أتسب آلهتنا؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أوتصيبنك بسوء. وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها: أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم؛ كما قال {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون، قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون، من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم، إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل} قوله تعالى}ولئن سألتهم}أي ولئن سألتهم يا محمد }من خلق السماوات والأرض ليقولن الله}بين أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو الله، وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بآلهتهم التي هي مخلوقة لله تعالى، وأنت رسول الله الذي خلقها وخلق السماوات والأرض. }قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله}أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا }أفرأيتم ما تدعون من دون الله}}إن أرادني الله بضر}بشدة وبلاء }هل هن كاشفات ضره}يعني هذه الأصنام }أو أرادني برحمة}نعمة ورخاء }هل هن ممسكات رحمته}قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع. فنزلت}قل حسبي الله}ترك الجواب لدلالة الكلام عليه؛ يعني فسيقولون لا أي لا تكشف ولا تمسك فـ }قل}أنت }حسبي الله}أي عليه توكلت أي اعتمدت و}عليه يتوكل المتوكلون}يعتمد المعتمدون. وقد تقدم الكلام في التوكل. وقرأ نافع وابن كثير والكوفيون ما عدا عاصما }كاشفات ضره}بغير تنوين. وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم }هل هن كاشفات ضره}. }ممسكات رحمته}بالتنوين على الأصل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأنه اسم فاعل في معنى الاستقبال، وإذا كان كذلك كان التنوين أجود. قال الشاعر: ولوكان ماضيا لم يجز فيه التنوين، وحذف التنوين على التحقيق، فإذا حذفت التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة. وحذف التنوين كثير في كلام العرب موجود حسن؛ قال الله تعالى}هديا بالغ الكعبة{المائدة: ] وقال وقال النابغة: معناه وارد الثمد فحذف التنوين؛ مثل }كاشفات ضره}. قوله تعالى}قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل}أي على مكانتي أي على جهتي التي تمكنت عندي }فسوف تعلمون}. وقرأ أبو بكر بالجمع }مكاناتكم}. وقد مضى في }الأنعام}. }من يأتيه عذاب يخزيه}أي يهينه ويذله أي في الدنيا وذلك بالجوع والسيف. }ويحل عليه عذاب مقيم}أي في الآخرة. }إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل}تقدم. {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} قوله تعالى}الله يتوفى الأنفس حين موتها}أي يقبضها عند فناء آجالها }والتي لم تمت في منامها}اختلف فيه. فقيل: يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها }فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى}وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها؛ قال ابن عيسى. وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها. قال: وقد يكون توفيها نومها؛ فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف }فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى}أي يعيدها. قال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين، وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة. وقال ابن زيد: النوم وفاة والموت وفاة. وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح؛ هل هما شيء واحد أو شيئان على ما ذكرنا. والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب. من ذلك والصحيح فيه أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة، يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف ويدرج، وبه إلى السماء يعرج، لا يموت ولا يفنى، وهو مما له أول وليس له آخر، وهو بعينين ويدين، وأنه ذو ريح طيبة وخبيثة؛ كما في حديث أبي هريرة. وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض؛ وقد ذكرنا الأخبار بهذا كله في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة. وقال تعالى قوله تعالى}فيمسك التي قضى عليها الموت}هذه قراءة العامة على أنه مسمى الفاعل }الموت}نصبا؛ أي قضى الله عليها وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد؛ لقوله في أول الآية}الله يتوفى الأنفس}فهو يقضي عليها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزه والكسائي }قضي عليها الموت}على ما لم يسم فاعله. النحاس، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام؛ لأنهم قد أجمعوا على }ويُرسِلُ}ولم يقرؤوا }ويُرسَلُ}. وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء، ويحيي ويميت، لا يقدر على ذلك سواه. }إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}يعني في قبض الله نفس الميت والنائم، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت وقال الأصمعي سمعت معتمرا يقول: روح الإنسان مثل كبة الغزل، فترسل الروح، فيمضى ثم تمضى ثم تطوى فتجيء فتدخل؛ فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شيء في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد. وقيل غير هذا؛ وفي التنزيل {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون، وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} قوله تعالى}أم اتخذوا من دون الله شفعاء}أي بل اتخذوا يعني الأصنام وفي الكلام ما يتضمن لم؛ أي }إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}لم يتفكروا ولكنهم اتخذوا آلهتهم شفعاء. }قل أولو كانوا لا يملكون شيئا}أي قل لهم يا محمد أتتخذونهم شفعاء وإن كانوا لا يملكون شيئا من الشفاعة }ولا يعقلون}لأنها جمادات. وهذا استفهام إنكار. }قل لله الشفاعة جميعا}نص في أن الشفاعة لله وحده كما قال قوله تعالى}وإذا ذكر الله وحده}نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه، وعلى الحال عند يونس. }اشمأزت}قال المبرد: انقبضت. وهو قول ابن عباس ومجاهد. وقال قتادة: نفرت واستكبرت وكفرت وتعصت. وقال المؤرج أنكرت. وأصل الاشمئزاز النفور والازورار. قال عمرو بن كلثوم: وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع وهو المذعور. وكان المشركون إذا قيل لهم }لا إله إلا الله}نفروا وكفروا. }وإذا ذكر الذين من دونه}يعني الأوثان حين ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته سورة }النجم}تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى. قاله جماعة المفسرين. }إذا هم يستبشرون}أي يظهر في وجوههم البشر والسرور. {قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} قوله تعالى}قل اللهم فاطر السماوات والأرض}نصب لأنه نداء مضاف وكذا }عالم الغيب}ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا. }أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} قوله تعالى}ولو أن للذين ظلموا}أي كذبوا وأشركوا }ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة}أي من سوء عذاب ذلك اليوم. وقد مضى هذا في سورة }آل عمران}و}الرعد}. }وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}من أجل ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقاله السدي. وقيل: عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة. ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم من غير توبة فـ }بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}من دخول النار. وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله }وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. }وبدا لهم}أي ظهر لهم }سيئات ما كسبوا}أي عقاب ما كسبوا من الكفر والمعاصي. }وحاق بهم}أي أحاط بهم ونزل }ما كانوا به يستهزئون}. {فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون، قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين، أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} قوله تعالى}فإذا مس الإنسان ضر دعانا}قيل: إنها نزلت في حذيفة بن المغيرة. }ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم}قال قتادة}على علم}عندي بوجوه المكاسب، وعنه أيضا }على علم}على خير عندي. وقيل}على علم}أي على علم من الله بفضلي. وقال الحسن}على علم}أي بعلم علمني الله إياه. وقيل: المعنى أنه قال قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة؛ فقال الله}بل هي فتنة}أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها. قال الفراء: أنث }هي}لتأنيث الفتنة، ولوكان بل هو فتنة لجاز. النحاس: التقدير بل أعطيته فتنة. }ولكن أكثرهم لا يعلمون}أي لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار. قوله تعالى}قد قالها}أنث على تأنيث الكلمة. }الذين من قبلهم}يعني الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال}إنما أوتيته على علم عندي}. }فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}}ما}للجحد أي لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقيل: أي فما الذي أغنى أموالهم؟ فـ }ما}استفهام. }فأصابهم سيئات ما كسبوا}أي جزاء سيئات أعمالهم. وقد يسمى جزاء السيئة سيئة. }والذين ظلموا}أي أشركوا }من هؤلاء}الأمة }سيصيبهم سيئات ما كسبوا}أي بالجوع والسيف. }وما هم بمعجزين}أي فائتين الله ولا سابقيه. وقد تقدم. قوله تعالى}أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}خص المؤمن بالذكر؛ لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها. ويعلم أن سعة الرزق قد يكون مكرا واستدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما. {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} قوله تعالى}قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}وإن شئت حذفت الياء؛ لأن النداء موضع حذف. النحاس: ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، أتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه. فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام، وإذا به قد فتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه}قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}إلى قوله تعالى}أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه: إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية}قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}ذكره البخاري بمعناه. وقد مضى في آخر }الفرقان}. وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا: بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية. وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه: قوله تعالى}وأنيبوا إلى ربكم}أي ارجعوا إليه بالطاعة. لما بين أن من تاب من الشرك يغفر له أمر بالتوبة والرجوع إليه، والإنابة الرجوع إلى الله بالإخلاص. }وأسلموا له}أي اخضعوا له وأطيعوا }من قبل أن يأتيكم العذاب}في الدنيا }ثم لا تنصرون}أي لا تمنعون من عذابه. وروى من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله). قوله تعالى}واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون}}أحسن ما أنزل}هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته. وقال السدي: الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى علمه. وقال: أنزل الله كتب التوراة والإنجيل والزبور، ثم أنزل القرآن وأمر باتباعه فهو الأحسن وهو المعجز. وقيل: هذا أحسن لأنه ناسخ قاض على جميع الكتب وجميع الكتب منسوخة. وقيل: يعني العفو؛ لأن الله تعالى خير نبيه عليه السلام بين العفو والقصاص. وقيل: ما علم الله النبي عليه السلام وليس بقرآن فهو حسن؛ وما أوحى إليه من القرآن فهو الأحسن. وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية. }أن تقول نفس}}أن}في موضع نصب أي كراهة }أن تقول}وعند الكوفيين لئلا تقول وعند البصريين حذر }أن تقول}. وقيل: أي من قبل }أن تقول نفس}لأنه قال قيل هذا}من قبل أن يأتيكم العذاب}الزمخشري: فإن قلت لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر. ويجوز أن يريد نفسا متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعقاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير كما قال الأعشى: وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، ونظيره: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت، ولا يقصد إلا التكثير. }ياحسرتا}والأصل }يا حسرتي}فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت، وربما ألحقوا بها الهاء؛ أنشد الفراء: وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف؛ لتدل على الإضافة. وكذلك قرأها أبو جعفر}يا حسرتاي}والحسرة الندامة }على ما فرطت في جنب الله}قال الحسن: في طاعة الله. وقال الضحاك: أي في ذكر الله عز وجل. قال: يعني القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة}في جنب الله}أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار؛ يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره؛ ومنه يعني الناس من جانب والأمير من جانب. وقال ابن عرفة: أي تركت من أمر الله؛ يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي؛ قال كثير: وكذا قال مجاهد؛ أي ضيعت من أمر الله. قوله تعالى}أو تقول}هذه النفس }لو أن الله هداني}أي أرشدني إلى دينه. وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق. وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله وأنشد الفراء: فنصب وتسأل على موضع الذكرى؛ لأن معنى الكلام فما لك منها إلا أن تذكر. ومنه للبس عباءة وتقر؛ أي لأن ألبس عباءة وتقر. وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بني إسرائيل وجد رقعة: إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة؛ فقال: ولأي شيء أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ ذهب عمري في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم؛ فأنزل الله خبره في القرآن. وقال قتادة: هؤلاء أصناف؛ صنف منهم قال}يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله}. وصنف منهم قال}لو أن الله هداني لكنت من المتقين}. وقال آخر}لو أن لي كرة فأكون من المحسنين}فقال الله تعالى ردا لكلامهم}بلى قد جاءتك آياتي}قال الزجاج}بلى}جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى }لو أن الله هداني}ما هداني، وكأن هذا القائل قال ما هديت؛ فقيل: بل قد بين لك طريق الهدى فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. }آياتي}أي القرآن. وقيل: عنى بالآيات المعجزات؛ أي وضح الدليل فأنكرته وكذبته. }واستكبرت وكنت من الكافرين}أي تكبرت عن الإيمان }وكنت من الكافرين}. وقال}استكبرت وكنت}وهو خطاب الذكر؛ لأن النفس تقع على الذكر والأنثى. يقال: ثلاثة أنفس. وقال المبرد؛ تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد. وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ}قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين}. وقرأ الأعمش}بلى قد جاءته آياتي}وهذا يدل على التذكير. والربيع بن أنس لم يلحق أم سلمة إلا أن القراءة جائزة؛ لأن النفس تقع للمذكر والمؤنث. وقد أنكر هذه القراءة بعضهم وقال: يجب إذا كسر التاء أن تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم؛ ألا ترى أن قبله }أن تقول نفس}ثم قال}وإن كنت لمن الساخرين}ولم يقل من السواخر ولا من الساخرات. والتقدير في العربية على كسر التاء }واستكبرت وكنت}من الجمع الساخرين أو من الناس الساخرين أو من القوم الساخرين. {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون، قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} قوله تعالى}ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}أي مما حاط بهم من غضب الله ونقمته. وقال الأخفش}ترى}غير عامل في قوله}وجوههم مسودة}إنما هو ابتداء وخبر. الزمخشري: جملة في موضع الحال إن كان }ترى}من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب. }أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال عليه السلام: (سفه الحق وغمص الناس) أي احتقارهم. وقد مضى في }البقرة}وغيرها. قوله تعالى}وينجي الله الذين اتقوا}وقرئ}وينجى}أي من الشرك والمعاصي. }بمفازتهم}على التوحيد قراءة العامة لأنها مصدر. وقرأ الكوفيون}بمفازاتهم}وهو جائز كما تقول بسعاداتهم. {الله خالق كل شيء}أي حافظ وقائم به. وقد تقدم. قوله تعالى}له مقاليد السماوات والأرض}واحدها مقليد. وقيل: مقلاد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد. والمقاليد المفاتيح عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: خزائن السماوات والأرض. وقال غيره: خزائن السماوات المطر، وخزائن الأرض النبات. وفيه لغة أخرى أقاليد وعليها يكون واحدها إقليد. قال الجوهري: والإقليد المفتاح، والمقلد مفتاح كالمنجل ربما يقلد به الكلأ كما يقلد القت إذا جعل حبالا؛ أي يفتل والجمع المقاليد. وأقلد البحر على خلق كثير أي غرقهم كأنه أغلق عليهم. قوله تعالى}والذين كفروا بآيات الله}أي بالقرآن والحجج والدلالات. }أولئك هم الخاسرون}تقدم. قوله تعالى}قل أفغير الله تأمروني أعبد }ذلك حين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. و}غير}نصب بـ }أعبد}على تقدير أعبد غير الله فيما تأمرونني. ويجوز أن ينتصب بـ }تأمروني}على حذف حرف الجر؛ التقدير: أتأمروني بغير الله أن أعبده، لأن أن مقدرة وأن والفعل مصدر، وهي بدل من غير؛ التقدير: أتأمروني بعبادة غير الله. وقرأ نافع}تأمروني}بنون واحدة مخففة وفتح الياء. وقرأ ابن عامر}تأمرونني}بنونين مخففتين على الأصل. الباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها وقعت في مصحف عثمان بنون واحدة. وقرأ نافع على حذف النون الثانية وإنما كانت المحذوفة الثانية؛ لأن التكرير والتثقيل يقع بها، وأيضا حذف الأولى لا يجوز؛ لأنها دلالة الرفع. وقد مضى في }الأنعام}بيانه عند قوله تعالى}أتحاجوني}. }أعبد}أي أن أعبد فلما حذف }أن}رفع؛ قاله الكسائي. ومنه قول الشاعر: والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ }أعبد}بالنصب. {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} قوله تعالى}ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت}قيل: إن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والتقدير: لقد أوحي إليك لئن أشركت وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك. وقيل: هو على بابه؛ قال مقاتل: أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف. ثم قال}لئن أشركت}يا محمد}ليحبطن عملك}وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل: الخطاب له والمراد أمته؛ إذ قد علم الله أنه لا يشرك ولا يقع منه إشراك. والإحباط الإبطال والفساد؛ قال القشيري: فمن ارتد لم تنفعه طاعاته السابقة ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر؛ ولهذا قال قلت: هذا مذهب الشافعي. وعند مالك تجب عليه الإعادة وقد مضى في }البقرة}بيان هذا مستوفى. قوله تعالى}بل الله فاعبد}النحاس: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله عز وجل منصوب بـ }اعبد}قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. قال النحاس: وقال الفراء يكون منصوبا بإضمار فعل. وحكاه المهدوي عن الكسائي. فأما الفاء فقال الزجاج: إنها للمجازاة. وقال الأخفش: هي زائدة. وقال ابن عباس}فاعبد}أي فوحد. وقال غيره}بل الله}فأطع }وكن من الشاكرين}لنعمه بخلاف المشركين. {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} قوله تعالى}وما قدروا الله حق قدره}قال المبرد: ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر. قال النحاس: والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذا عبدوا معه غيره وهو خالق الأشياء ومالكها. ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال}والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}. ثم نزه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة فقال}سبحانه وتعالى عما يشركون}. وقال آخر: قتلت شنيفا ثم فاران بعده وكان على الآيات غير أمين وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضا؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال قوله تعالى}ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى}بين ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء وهو النفخ في الصور، وإنما هما نفختان؛ يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في }النمل}و}الأنعام}أيضا. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل: إنه يكون معه جبريل ل قلت: جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال: قوله تعالى}فإذا هم قيام ينظرون}أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون. وقيل: قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به. وقيل: هذا النظر بمعنى الانتظار؛ أي ينتظرون ما يفعل بهم. وأجاز الكسائي قياما بالنصب؛ كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسا. {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} قوله تعالى}وأشرقت الأرض بنور ربها}إشراقها إضاءتها؛ يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وشرقت إذا طلعت. ومعنى}بنور ربها}بعدل ربها؛ قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها؛ والمعنى واحد؛ أي أنارت وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات والعدل نور. وقيل: إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به. وقال ابن عباس: النور المذكور ها هنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضيء به الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين يأتي لفصل القضاء. والمعنى أنها أشرقت بنور خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه على حد إضافة الملك إلى المالك. وقيل: إنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه؛ لأنه نهار لا ليل معه. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير}وأشرقت الأرض}على ما لم يسم فاعله وهي قراءة على التفسير. وقد ضل قوم ها هنا فتوهموا أن الله عز وجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن مشابهة المحسوسات، بل هو منور السماوات والأرض، فمنه كل نور خلقا وإنشاء. وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل}وأشرقت الأرض بنور ربها}يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح قوله تعالى}ووضع الكتاب}قال ابن عباس: يريد اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يريد الكتاب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. }وجيء بالنبيين}أي جيء بهم فسألهم عما أجابتهم به أممهم. }والشهداء}الذين شهدوا على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} قوله تعالى}وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا}هذا بيان توفية كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار والمؤمن إلى الجنة. والزمر: الجماعات واحدتها زمرة كظلمة وغرفة. وقال الأخفش وأبو عبيدة}زمرا}جماعات متفرقة بعضها إثر بعض. قال الشاعر: وقال آخر: وقيل: دفعا وزجرا بصوت كصوت المزمار. }حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها}جواب إذا، وهي سبعة أبواب. وقد مضى في }الحجر}. }وقال لهم خزنتها}واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، }ألم يأتكم رسل منكم}يقولون لهم تقريعا وتوبيخا.}ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم}أي الكتب المنزلة على الأنبياء. }وينذرونكم لقاء يومكم هذا}أي يخوفونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى}أي قد جاءتنا، وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم }ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين}وهي قوله تعالى {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين، وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} قوله تعالى}وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا}يعني من الشهداء والزهاد والعلماء والقراء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته. وقال في حق الفريقين}وسيق}بلفظ واحد، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين. }حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها}قيل: الواو هنا للعطف عطف على جملة والجواب محذوف. قال المبرد: أي سعدوا وفتحت، وحذف الجواب بليغ في كلام العرب. وأنشد: فحذف جواب لو والتقدير لكان أروح. وقال الزجاج}حتى إذا جاؤوها}دخلوها وهو قريب من الأول. وقيل: الواو زائدة. قال الكوفيون وهو خطأ عند البصريين. وقد قيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى، والتقدير حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة، بدليل قوله قلت: وقد استدل بهذا من قال إن أبواب الجنة ثمانية؛ وذكروا حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى}وقال لهم خزنتها}قيل: الواو ملغاة تقديره حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها }قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم}أي في الدنيا. قال مجاهد: بطاعة الله. وقيل: بالعمل الصالح. حكاه النقاش والمعنى واحد. وقال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه}سلام عليكم}بمعنى التحية }طبتم فادخلوها خالدين}. قلت: قوله تعالى}وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده}أي إذا دخلوا الجنة قالوا هذا. }وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء}أي أرض الجنة قيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت تكون لأهل النار لو كانوا مؤمنين؛ قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين وقيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير. }فنعم أجر العاملين}قيل: هو من قولهم أي نعم الثواب هذا. وقيل: هو من قول الله تعالى؛ أي نعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتهم. قوله تعالى}وترى الملائكة}يا محمد }حافين}أي محدقين }من حول العرش}في ذلك اليوم }يسبحون بحمد ربهم}متلذذين بذلك لا متعبدين به؛ أي يصلون حول العرش شكرا لربهم. والحافون أخذ من حافات الشيء ونواحيه. قال الأخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم الاسم إلا مجتمعين. ودخلت }من}على }حول}لأنه ظرف والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. وقال الأخفش}من}زائدة أي حافين حول العرش. وهو كقولك: ما جاءني من أحد، فمن توكيد. الثعلبي: والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح وتحذفها أحيانا، فيقولون: سبح بحمد ربك، وسبح حمدا لله؛ قال الله تعالى
|